يعد الأديب مصطفى صادق الرافعي في الطليعة من الكتاب والأدباء الذين أثروا بفكرهم وإبداعهم الحياة الأدبية والفكرية في مصر والعالم العربي في النصف الأول من القرن العشرين.
وهو يمثل مع عمالقة الأدب من معاصريه الريادة الحضارية في النهوض بالعقلية العربية في العصر الحديث، وإعادتها إلى دائرة الضوء المتوهجة التي انتشرت أشعتها.. وعمت أرجاء الأرض في عصور ازدهار الحضارة الإسلامية.
وكان "الرافعي" أشدهم ارتباطاً بالتراث العربي، وأكثرهم دراية واقتناعاً به، وهو ينفرد بملكة إبداعية ابتكارية في صياغة الأساليب، مع ارتباط شعوري صادق بكل مقومات التاريخ الإسلامي، وبالمصدرين الرئيسين للدين الإسلامي وهما "القرآن الكريم والحديث النبوي الشريف".
ويعلل الشيخ حسنين حسن مخلوف - رحمه الله- "شدة الرافعي في نقده، وقوة شكيمته في خصومته العلمية والنقدية.. وعدم استسلامه في معاركه النقدية حينما قال أحد القراء عن الرافعي: "إنه ناقد صعب" فأجاب الشيخ مخلوف قائلاً: لشعوره بالتمكن من مادة اللغة العربية وثقته بنفسه، وفهمه لأسرار البيان العربي شعراً ونثراً، ولدراسة أدوات الأدب العربي لتكون صناعة القلم سليمة لديه.ثم لا يكتب رأياً إلا إذا امتحنه على آداب القرآن الكريم، وأصول الإسلام فما وافقها فهو رأيه، وما خالفها فهو بريء منه.
تحت راية القرآن في قلب الميدان
وكتاب "تحت راية القرآن" ميدان لمعركة دارت رحاها بين قطبين هما "الرافعي" مدافعاً عن تراث العربية، وعن كثير من ثوابت الإسلام ضد آراء جريئة، وحقائق مغلوطة، ومغرضة آثارها طه حسين في كتابه "الشعر الجاهلي" في إصداره الأول عام 1926م.
ولنتساءل: لماذا وضع الرافعي قضية الانتحال التي تعد العنصر الأساسي في كتاب طه حسين، والقاسم المشترك بينه وبين الرافعي في كتابه "تحت راية القرآن"؟ لماذا جعل الرافعي مناقشة هذه القضية وتحريرها "تحت راية القرآن" وما علاقة القرآن بقضية الشعر الجاهلي؟
إن منهج الرافعي الذي ينطلق من المصدرين الكبيرين: الكتاب والسنة هو المحرك الأول لهذه القضية.
والبعد الديني لا الأدبي.. هو في المقدمة من أبعاد قضية "الانتحال" في الشعر الجاهلي.
ولنتأمل النتيجة التي انتهى إليها د. طه حسين متبعاً فيها آراء كثير من المستشرقين.. وهي نتيجة سلبية لا تصدر من باحث متمكن من مقومات تراث الأمة العربية والإسلامية، وفي مقدمة هذه المقومات الإيمان بقداسة النص القرآني، وبأنه قطعي النص والدلالة يقول د. طه حسين:
"للتوراة أن تحدثنا عن إبراهيم وإسماعيل، وللقرآن أن يحدثنا عنهما أيضاً، ولكن ورود هذين الاسمين في التوراة والقرآن لا يكفي لإثبات وجودهما التاريخي، فضلاً عن إثبات هذه القصة التي تحدثنا بهجرة إسماعيل وإبراهيم إلى مكة".
قال دجال الأدب العربي طه حسين: "ونحن مضطرون إلى أن نرى في هذه القصة نوعاً من الحيلة في إثبات الصلة بين اليهود والعرب من جهة، وبين الإسلام واليهودية، والتوراة والقرآن من جهة أخرى".
والرد على هذه الفرية التي تقدح في قداسة النص القرآني.. لم تقتصر على الرافعي فقط بل تصدى لها كثير من العلماء وفي مقدمتهم: "الأمير شكيب أرسلان، والشيخ محمد الخضر حسين، ومحمد فريد وجدي، ود. محمد أحمد الغمراوي، والشيخ محمد أحمد عرفة، وغيرهم.
وإذا كان الأمر كذلك، فعلى الذين يريدون أن يحرقوا بخور الإلحاد أن يحرقوه في قلوبهم، لأنهم أحرار في عقائدهم، أو أن يحرقوه في منازلهم، لأنهم أحرار في بيئاتهم الخاصة، أما أن يطلقوه في أجواء دور العلم ومنابر الجامعة فهذا لا يمكن أن نفهمه بأي حال من الأحوال".
ووصف الشيخ مصطفى القاياتي بأن ما جاء به د. طه حسين "قبائح متعددة" "ما بين تكذيب لصحيح التاريخ، وتكذيب لنصوص القرآن، ونسبة التحايل إلى الله وإلى النبي محمد، وإلى موسى عليهما السلام".
والرافعي يلخص تقويمه لشخصية د. طه حسين.. مع تفنيد آرائه في أسلوب حاد ساخر.. يوجز الحقائق، ويجمل التفاصيل ولكنه يتوسع فيها بعد ذلك عبر مباحث الكتاب مستعيناً بشهذاات المعاصرين من الباحثين والعلماء والنواب ورجال السياسة المنصفين.
فيقول معللاً فساد آراء د. طه حسين فيما يتعلق بالقضايا التي أثارها في كتاب "الشعر الجاهلي" وهي كثيرة:
"وصاحبنا يرجع في ذلك إلى طبع ضعيف لم تحكمه صناعة الشعر، ولا راضته مذاهب الخيال، ولا عهد له بأسرار الإلهام التي صار بها الشاعر شاعراً، ونبغ الكاتب كاتباً، وما هو إلا ما ترى من خلط يسمى علماً، وجرأة تكون نقداً، وتحامل يصبح رأياً، "وتقليد للمستشرقين يسميه اجتهذاًا"، وغض من الأئمة يجعل به الرجل نفسه إماماً، وهدم أحمق يقول هو البناء وهو التجديد، وما كنا نعرف على التعيين ما الجديد أو التجديد في رأي هذه الطائفة حتى رأينا أستاذ الجامعة يقرر في مواضع كثيرة من كتابه أنه هو الشك، ومعنى ذلك أنك إذا عجزت عن نص جديد تقرر به شيئاً فشك في النص القديم، فحسبك ذلك شيئاً تعرف به، ومذهباً تجادل فيه، لأن للمنطق قاعدتين إحداهما تصحيح الفاسد بالقياس والبرهان: "والأخرى إفساد الصحيح بالجدل والمكابرة"..
ثم يحترس الرافعي.. ويزيل هذه المثالب التي شخص بها مسلك د. طه حسين في منهجه وفي شخصيته.. ببعض المعالم الإيجابية التي يتسم بها، وهذا يؤكد أن الرافعي في تقويمه له لم يكن متجنباً، ولا مسفاً مثلما كان في "السفود" وهو يهجم على العقاد بكل ألوان السباب.. وفي قلب هذا الهجوم.. تبرق شهب نقدية حارقة لا يستطيع العقاد لها دفعاً.. ولكن "الرافعي" مع العقاد لم يكن منصفاً، ولم تكن غضبته للعلم وحده، ولم تكن غيرة على الدين، وإنما كانت رد فعل اتسم بالغضب الشديد والانفعال الجارح وكأنه استجابة مباشرة لقانون الطبيعة البشرية، وقوانين الحياة نفسها.
"لكل فعل رد فعل مساوٍ له في الحركة مضاد له في الاتجاه".
هي في أكثر أحوالها علم الجهلاء، وقوة الضعف، وكياسة الحمقى وعقل الممرورين".
ويمكن أن نتهم الرافعي بالمبالغة في اتهام طه حسين وإلصاق كل هذه المثالب به.. ولكني أرى أنه أصاب كبد الحقيقة حين وصف صاحب كتاب "في الشعر الجاهلي" بأنه مستسلم لتقليد الزنادقة، وبعض المستشرقين الذين لا يوثق برأيهم ولا بفهمهم في الآداب العربية.
ولنتأمل دقة الرافعي في التفريق بين الزنادقة.. وبعض المستشرقين حيث لم ينكر الدور الإيجابي الذي قام به المستشرقون في خدمة التراث العربي والإسلامي تحقيقاً.. وطباعة، وتمحيصاً وتدقيقاً وفهرسة.. وهي جهود بارزة لا تنكر.. وتحتاج إلى قليل من تصحيح المفاهيم، وإضاءة مناطق الشبهات، وتحرير بعض الآراء التي تماهها الترجمات الحرفية التي تحرف المعنى وتقلب الحقائق.
يقول الرافعي: إن طه حسين استسلم للزنادقة وبعض المستشرقين وهذا كلام صائب ودقيق لأنه حدد هذا "البعض" وهم الذين "لا يوثق برأيهم، ولا بفهمهم في الآداب العربية".
ومن المستشرقين المنصفين للحضارة العربية والفكر الإسلامي "توماس كارلايل" صاحب كتاب "محمد المثل الأعلى في كل شيء" و"الكونت هنري دي كاستري" صاحب كتاب "الإسلام خواطر وسوانح" و"المستشرق" فرانز روزنثال"، والمؤرخ الإنجليزى "المستر سميث" في كتابه "محمد والدين المحمدي"، وكذلك الفيلسوف الإنجليزي "برنارد ما" الذي يقول ويؤكد أنه "في الوقت الحاضر كثيرون من أبناء أوروبا قد دخلوا في دين "محمد" أي الإسلام، حتى يمكن أن يقال: إن تحول أوروبا إلى الإسلام قد بدأ، وأحسن ما يقال: إن القرن الحادي والعشرين لن يمضي حتى تكون أوروبا قد اتخذته ديناً لها، وعهدت إليه في حل مشاكلها".
أما المستشرقون الذين لا يوثق برأيهم ولا يفهمهم في الآداب العربية ومعهم الزنادقة الذين قلدهم طه حسين - كما يقول الرافعي".. وكما تشهد بذلك الوثائق العلمية ووقائع التاريخ، وكما انتهت إلى ذلك اللجنة التي فحصت كتاب "في الشعر الجاهلي" وكذلك المحكمة التي أصدرت حكمها بعد اعتذار د. طه حسين وإقراره بأنه مسلم ولم يتعمد الإساءة إلى الإسلام.
وقد انتهى الأمر إلى مصادرة الكتاب وإحالة طه حسين إلى النيابة، وحققت معه وانتهت إلى أن هذا البحث ليس من عمل الدكتور بل سبقه به المستشرقون ومنهم "مرجليوث" المستشرق الإنجليزي، وانتهت هذه القضية بقضها وقضيضها سنة 1926م - كما يقول الأستاذ حسنين حسن مخلوف.
وحفظت النيابة الأوراق لعدم كفاية الأدلة ولثبوت حسن النية فيما صدر من الدكتور طه حسين.