عندما يلتقي الشعراء يكون للقاء نكهة مختلفة ورونق خاص .حيث تتلاقح القرائح وتشحذ الأفكار الأفكار ، وخاصة إذا كانت العلاقة بينهم حميمة. حيث يتبادلون الحديث ويتلون على مسامع بعضهم القصائد في جو مفعم بالعبق الروحي وأنفاس المشاعر المتأججة.وهكذا كانت جل لقاءاتي مع أصدقائي من الشعراء.
والشاعر عبد الجليل عليان هو الشاعر الذي أخذ النصيب الأوفى من وقت استماعي فقد كنت أستمع إليه الساعات الطوال.
وفي أحد لقاءاتنا قلت له هات أسمعني. فقال: سأسمعك القصيدة الإلكترونية.
فتبسمت باستغراب إذ لم يكن الحاسوب متفشيا بين الناس في تلك الفترة.فقلت : هات لنرى.
فقال:
خـُـذنـي إلى الـقُـدس ِ حَـيْـثُ الـدَّربُ أعْـرفـُهُ
إلا إلـَيْـهـا ، وأنـْتَ الـفـارسُ الـبَـطـَـــــــــــــلُ
فشدني البيت، وغبت معه في عوالم الشعر والحقائق والتاريخ. فوجدت هذا البيت قصيدة متكاملة ، قصيدة تجريدية ، قصيدة بليغة، مختزلة ، قوية . فيها الرجاء والأمل والعتاب والحنين والبكاء. صراع يشترك فيه السيف والقلم منذ عام 1948 إلى يومنا هذا تجسد في بيت من الشعر. حقا. كل ما قيل في المعارك وخائضيها والبطولات الفردية والجماعية. والمقاومة ومدح القادة وتحريضهم. كل ذلك محته الأحداث التي كذب فألها تفاؤلاتنا، وعادت أمجاد القصائد وزخرفها منتكسة مع النكسات.
ويبقى الممدوح الوحيد هو ذلك الذي يستحق المدح ، وأي مدح فوق الإقرار له بالفروسية والبطولة معا. وهي ذروة ما يطمح إليه المقاتل من مديح في الدنيا. ذلك الممدوح هو الذي يأخذنا إلى القدس حيث أننا نعرف الدروب إلى كل بلاد الدنيا حتى قبل برنامج غوغل إيرث. إلا مدينة واحدة التوت الدروب إليها وسدت السبل وضعنا في متاهاتها عبر التاريخ. إنها مدينة القدس الحبيبة. سلكنا إليها كل الدروب وعدنا في نهاية المطاف بالخيبة نجتر الوعود والآمال ، وندرس وجوه الإبداع في قصائد الشعراء ونشرح معاني ليس لها معنى ونعرب كلمات أفرغت من عروبتها.(وأستل من تينة الصدر غصنا وأنسف دبابة الغاصبين) هكذا كان دون كيشوت العرب يقاتل بالسيف والكلمة على السواء.
ها هي الدعوة مفتوحة للجميع. والكل يعرضون على المحك:
(خـُـذنـي إلى الـقُـدس ِ ) أنت أنت أيـًا كنت ، لاتدع المجد وتحترف البطولات الهوائية. (حَـيْـثُ الـدَّربُ أعْـرفـُهُ) إلى كل أصقاع الأرض (إلا إلـَيْـهـا)، فإن فعلت ذلك وأرشدتني إلى طريقها وتمكنت من الوصول بعد ضياعي في متاهات الحرف والحد (وأنـْتَ الـفـارسُ الـبَـطـَـــــــــــــلُ) الذي سيسجل التاريخ بطولته عن جدارة وتحفظ سيرته ذاكرة الشعوب دون أن تكتبها الكتب، وتتناقلها الأجيال وتتزيد فيها عبر الأيام حتى يصبح صاحبها أسطورة تفوق عنترة والزير وصلاح الدين والظاهر بيبرس.
نحن نعيش في العصر الإلكتروني. ولا بد للعصر أن يفرز قصائد إلكترونية ، لكنها بعيدة عن الدون كيشوتية وأحلام الطفولة في ألعاب الكمبيوتر. فكانت قصيدة الشاعر عبد الجليل عليان من هذا النوع من القصائد. وأرجو أن يعيش الشاعر حتى يرى بعينيه ذلك الفارس البطل ويدبج فيه قصيدة ليست من النمط الإلكتروني وإنما تكون من المعلـــقــــات.