الشاعر
عدد الرسائل : 144 العمر : 58 الرسالة :
تاريخ التسجيل : 27/11/2008
| موضوع: قراءة في قصة (الأم والخفافيش) للأديب عز الدين الجلاوجي الخميس يونيو 04, 2009 5:59 am | |
| قراءة في قصة (الأم والخفافيش) للأديب عز الدين الجلاوجي
بسم الله الرحمن الرحيم
نحن أمام قصة تجتمع فيها عدة سمات: فهي وجدانية، وقومية، ووطنية. والقصة رغم طولها على غير المعتاد في القصة المعاصرة، إلا أنها جميلة. هي طويلة عند من ينظر بعينيه المجردتين إلى عدد أسطرها وتزاحم كلماتها، لكنها تبدو قصيرة لمن ينظر إليها بفكره وقلبه، وكأن شكلها يعبر عن مضمونها الذي يعكس طول الصراع الضارب في أعماق التاريخ، وقصر زمنه في ظلال الأمل وبوارق النصر. ولعلي حين أمر عليها في قراءة تحليلية أتمكن من الغوص في بحرها فأظفر ببعض لآلئها.
(الأدب رسول الفكر) عبارة أطلقتها حين كنت طالبا في السنة الثانية الجامعية حيث كنا شعراء مبتدئين نضم بين ضلوعنا قلوبا تحمل هم الأمة، وفي رؤوسنا أدمغة مشبعة بالتاريخ وبفكر الأجداد، وتصادمنا مع نظريات الأدب والنقد التي تجرد الأدب من الهدف والفكر وتحصره في المتعة والابتكار والجمال المجرد (الأدب للأدب) ورغم كل النظريات التي درسناها وأجبرنا على ممالأة حملتها من الذين يمتلكون حق تقرير نجاحنا ورسوبنا فإنني ما زلت أصر على أن الأدب رسول الفكر. ومن هنا أنطلق في قراءتي لهذه القصة. القصة واضحة الهدف بينة المعاني مشرقة الدلالات، تعرض ثلاثيتين متقابلتين عبر صراع طويل مع قوى ثابتة (منرعاة البقر والخنازير ) تتغير أقنعتها عبر التاريخ مع بقاء أشخاصها، فهم أحيانا (يقبلون قطعانا من الذئاب والخنازير والبقر والقردة... ومن حيوانات أعرفهاولا أعرفها) وهؤلاء يمثلون الطرف الأول في ثلاثية الشر، والطرف الثاني في هذه الثلاثية هم الأبناء المتخاذلون الذين تغريهم عطايا الأعداء فيهرولون لاهثين وراء متعهم تحت مظلة الأعداء (إلى أرض الجن والملائكة) ضاربين عرض الحائط بكل القيم وصرخات التاريخ الخالد: (لا تخيب أملي... لاتخيب أمل أبيك... أعد للشفاه بسمتها) وأما الطرف الآخر فهم الأبناء الخونة الذين يتنكرون لأمتهم ويتحولون إلى مطايا لأعدائها يقتلون أهلهم ويدمرون أرضهم إرضاء لعدوهم وعدو أمتهم (وما كاد يمر عام ثان حتىبدأ أخي الأوسط يقود هجومات كاسحة للاستيلاء على أرضنا، يدفعه إلى ذلك حلفاؤه منرعاة البقر والخنازير). ومدى هذه الثلاثية هو (الظلام الذي يكتسح البيت وما حوله) ومن يعيش في الظلام يصبح (خفاشا أسود نحيفا). وفي المقابل تنبثق ثلاثية أخرى هي الماضي المشرف المتمثل في الأب الشهيد الذي مات (متأثرا بجراحه العميقة وهو يدفع عنكم ضيم الجيران) ويبقى يلوح للأبناء كلما خيم الظلام واشتدت العواصف فيطل (من الجدار رأس!... نعم رأس، رأس أدمي مخضب بالدماء) ويأبى أن يمسح الصفحة المشرقة من تاريخه حين يفكر الأبناء بذلك (الدماء التي تغطيوجهك.. امسحها أو دعني أمسحها عنك) وكيف يمسحها وهي مصدر اعتزازه وفخر أحفاده (هل تمسحوسام الشرف من على جسدي؟).والطرف الثاني هو الحاضر المتمثل بالأم التي رسم الكاتب ملامحها بدقة متناهية (امتزجت على تضاريس وجهها الصفرة والسمرة تفزع الناظرين، كأنأفعى شرهة امتصت كل ما فيه من دم، وأفرغت أوردته من نبض الحياة. أفزعتني أمي.. لقد كانت أمي هكذالا عظميا في فستانها، وكان وجهها كجمجمة مدببة مسننة) فهي التي مرت عليها أحداث جسام لكنها استمدت مادة صمودها من طبيعتها ومن الأمل الذي تحيا له (وكنا نرى على قسمات وجهها حرقة التحديوالكبرياء... وكنا نرى على محياها لوحات للبطولة والكرامة، وفي عينيها السوداوينلغزا غامضا يدعونا أن نكبر.. أن نشمخر.. وأن نكون كالطود الأشم) ورغم كل الدواهي التي مرت عليها فقد حافظت على بقائها (كم صمدت أمي أمام الأعاصير العاتية!!.. وبقيت هي هي)مؤكدا أنهاتستمد عناصر قوتها من الأرض فهي (دائما كنخلة شاهقة.. كسروة شامخة.. كسنديانة ثابتة) بل هي الأرض نفسها (كالصحراء الكبرى). ويتمثل فيها الصمود والثبات (منذ أن مات أبي بقيت وحدها تدفععنا ضيم العدى وغوائل الدهر.. تحفظ شرفها وعزتها.. وترفض أن تنحني أمام أي كائن منكان( ، وتريد لأبنائها أن يرثوا عزة آبائهم عن جدارة وتعيش في ظلهم عزيزة ويعيشون في كنفها أباة (كانت تحب أن تحيا في عزة، وأن نكبر أمام عينيها في إباء)، وهي تغذي أبناءها بالقيم الأصيلة وتريد أن ( تكبر في جوانحناوخوالجنا وجوارحنا الرجولة والنخوة). والطرف الآخر في هذه الثلاثية هو المستقبل المتمثل بالابن الذي تهزه الأحداث ويسري اليأس إلى قلبه (ودون أن أشعر خرجت فارا بنفسي، لقد ملك الخوف علي أمري، ورحت أعدو بكل قواي تاركاأمي تلقى مصيرها كما لقي أبي مصيره) لكنه يحمل في أعماقه قيما وبقايا عزة وغيرة تجعله يلتفت إلى الوراء عندما (سمعتها من بعيد تصرخ صراخا كالرعدالمهول:عد أيها الخفاش( فيراجع حساباته بشكل سريع يسبق حركة الزمن وتقدم الخطر (واختلطت بين بصري مشاهد الأرض والبيت وألام والأب والدم والخفافيش) فيتراجع عن قرار الفرار ويرجع إلى عرينه حيث ترك الماضي والحاضر (ودونأن أشعر عدت... نعم عدت... كالإعصار عدت... كالرعد الهادر عدت) ويتحرك التاريخ وينتفض المجد الغابر في صورة الأم (رأيت أمي كأنها اللبؤة ديس عرينها،تدور ذات اليمين وذات الشمال). الابن يريد أن يقاتل ويحمي ذماره ولكن اليأس يسيطر على نفسه لأنه لايمتلك القوة (عندي الإرادة، ولكن تعوزني الاستطاعة). ويبدو الصراع بين الثلاثيتين شديدا عاصفا (حولت بصري إلى الباب على إثر زوبعة ترابية هزته هزا عنيفا حتى تسربالغبار من بين شقوقه... خشيت أن يضعف عن المقاومة ويسقط فوقي.. ومرت الزوبعةفاستقام الباب مكانه) وأحيانا يصبح الصراع ا باردا يسعى إلى إطفاء قبس الأمل الذي تمثله الشمعة الضعيفة بنورها الباهت (ولفتتنظري ذؤابة الشمعة يتلاعب بها الهواء ذات اليمين وذات الشمال، تتعثر وتقوم وهي فوقالصندوق المنخور في فجوة من البيت تقاوم ظلام الليل الحالك) لكنها تثبت أمام قسوة الظلام وشدة أعاصيره رغم عجزها عن إزالة شبحه الثقيل (فلا هو اخمد أنفاسها،ولا هي استطاعت تبديده وسلخه) ويبدأ اليأس بالتغلغل إلى نفوس الأبناء في فترة التداعيات ( وراودني في نفسي شك: هل يقوى هذا النور الخافت علىالصمود أمام هذا الظلام الذي يكتسح البيت وما حوله؟) ثم يأخذ الشك طريقه إلى أفكارهم حول قضية الصراع الذي أخذ صورته الباردة بين جذب ودفع فربما كان العدو يريد لها البقاء في حالة الضعف والمقاومة اليائسة ويبقى هو المسيطر فيبقي عليها لتكون هي ذريعته الوحيدة في استمرار هجومه (ولعلها لعبة استهوت الظلامفحدثته نفسه الظالمة أن يبقي على الذؤابة بين الموت والحياة يدفعها دفعا شديدا حتىتكاد تنكفئ وتنطفئ، ثم يجذبها لتستقيم، وما تكاد حتى يعيد معها الكرة). ثم ينطفئ الأمل فجأة وتتوالى الأحداث : اليأس ثم الفرار ثم مراجعة الحسابات ثم القرار والاستجابة لنداء النخوة وإشراق القيم في النفس ، والأم (الأرض) هي الثابت أمام كل المتغيرات وهي التي تمد بالقوة وتشد الإنسان ليبقى واقفا عليها كالطود (حين تريد فإنك تستطيع.. نعم تستطيع.. تحميكأرضك حين تعجر)، والتاريخ والأمجاد السالفة تشتعل قيمها لتكون السلاح الماضي (وضربت الأرضبقبضتي... تطاير الغبار حتى ملأ البيت وحجب الرؤية... ورأيت نورا يضيء أمام بصري... حدقت بين يدي... رأيت مهندا مصقولا... اندهشت ونظرت إليه... لقد كاد نوره يذهبببصري) إنه الحق الذي تكمن فيه قوة الثائر، فلا يراه الخونة الذين لا يدافعون عن الحق لأنهم لا يعرفون الحق (بشراك ولدي هذا السيف لا يظهر للخونة) . فهو يحمل القوة وإشراقة الأمل على امتداد الزمن (اندفعضوءه الوهاجنحوهم... أعمى أبصارهم... سمعتهم يعوون... يتصايحون... ضربتهم يميناويسارا... راحوا يتساقطون بالعشرات... ورحت أتقدم بثبات، وهم يتراجعون). وتنتهي القصة في المعركة الختامية بجراح تعطر بهاء الانتصار (وقد تسيل قطرات من دمي... ولكني كنت المنتصر) لتبقى قطرات الدم والجراح وساما تعتز به الأجيال فيطرح الكاتب من خلاله الشعار الذي أطلقه التاريخ بطل القصة (اسمح بدمك يرتد إليك عزك وكبرياؤك). اللغة: تنوعت لغة القص بحيث تناسبت مع المواقف ‘ فقد اعتمد أسلوب السرد الذاتي في بداية القصة ، ثم أسلوب التداعي كما في قصة الأخ الهارب ،ثم الحوار الذاتي كما في لوحة الريح والشمعة والتي استطاع الكاتب من خلالها إبراز الحالة النفسية للمجتمع بدقة متناهية وخيال جامح مبتكر عبر أسلوب غير مباشر.ثم الحوار المتعدد الأطراف كما رأينا في حديثه مع الأم في نهاية القصة. ولم يفت الأديب أن يستند إلى البيان المعجز استفادة من قوة التعبير القرآني ودلالة على ارتباط واقع القصة به مكانيا واجتماعيا (كل قطرةدم فجرت ينبوعا يسقي نخلا وعنبا وزيتونا وأبا) فهي ألفاظ قرآنية ومثلها (وكلٌّ رهين بما كسب) فهو تركيب قرآني مع اختلاف ترتيب الكلمات في السياق. وذلك مما يدل على أصالة ثقافة الكاتب وتطبعه بطابع ثقافته العربية الإسلامية. فالقصة رسالة موجهة إلى الأمة تؤكد لها على أنها تمتلك في داخلها الاستطاعة من قيم وتاريخ مجيد إذا أراد أبناؤها وصدقوا فإن هذه الاستطاعة تتحول إلى قوة هائلة يمكنها دحر القوى المعتدية مهما بلغت شدة بأسها وتكاثرت أطرافها (كانوا ينسلون من كل حدب وصوبومن كل فج عميق يأتون... كالجراد يأتون... كحجارة الأودية... كأشواك الأرضالنكدة... كعقارب وأفاعي السموم... عيونهم تلتهب كأنها النيران... أنيابهم كأنهانصلات السيوف... أظافرهم كمذاري الحديد الضخمة). ولكن العزيمة هي القوة الكامنة في هذه الأمة ، وهي ليست سهلة وإن بدت بسيطة في مظهرها (احمله هذا سيف الآباء والأجداد... احمله... احمله... تهد به راسيات الجبال... وتهزمبه الجيوش اللجبة) وبالعزيمة المستمدة من القيم والنخوة والتاريخ تنقلب المعايير ويتحول الضعيف إلى قوة جبارة (خرجت من البيت وقد غدوت أسدا) ولن يستطيع عدو الثبات أمام هذه القوة (وما هيإلا ساعة من زمن حتى تفرقوا فلولا في القفار والوديان). يريد الكاتب أن يقول لنا: إن القوة الحقيقية ليست في كثرة العدد وأكوام العتاد ، وإنما هي في داخل الإنسان يمتلكها حين يعرف قيمتها ويحسن استغلالها وتوجيهها. | |
|