الإسلام منهج واضح والتصوف جزء من هذا المنهج كان في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه فكرا متجسدا في سيرهم لا في شعاراتهم. التصوف زهد وقد كانوا أزهد الناس. التصوف مراقبة الله وقد كانوا أشد الناس مراقبة لله. التصوف محبة الله وقد كانوا أكثر الناس حبا لله. التصوف التزام بالقرآن والسنة وقد كانوا أكثر الناس التزاما بهما. التصوف محبة لله ومحبة في الله وهكذا كانوا . التصوف جهاد للنفس وجهاد بالسيف واللسان وعلى هذا ساروا. وقد زكاهم الله ورضي عنهم، وزكاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم. كانوا مسلمين، ولم يكن يخرج منهج التصوف عما كانوا عليه في سير أعلامه أقوالا أو أفعالا.. أما ما نراه فهو قشور تعلق بها الجهلة ممن لا يعلمون الحلال من الحرام فأكبوا على الدنيا وزخرفها وزينتها وأطايب طعامها وشرابها كمن ذكرهم الأستاذ عبد الرحمن في مقاله. وأما الاستشهاد بقول المعري في انتقاده للصوفية:
أرى جِيلَ التَّصَوُّف شَرَّ جيل فَقُـل لهـم وأَهْوِنبِالحُلـول
أَقالَ الله حيـنَ عَشِقْتُمـوه كُلُوا أَكلَ البَهائِموَارْقُصُوا لي!
أو لأية فئة مسلمة تشهد لله بالوحدانية فهو مرفوض لأن المعري سبق أن كان ملحدا وكانت توبته متأخرة وهو الذي يقول:
يامَـنْ يرى مَـدَّ البعوض جناحها في ظلمة الليل البـهيم الألـيـل
ويرى مناط عروقها في نحرها والمخ في تلك العـظام النحـَّـل
امنن عليّ بـتـوبة تـمـحـو بـهـــا ما كان مني في الزمان الأول
فهو يقر بما كان منه وهو إنكار وجود الله مطلقا.فكيف نحتج بنقده لفرقة تشهد بوجود الله؟! وأما قضية الحلول والاتحاد فهما قضيتان أثارها أعداء الإسلام الملاحدة أولا ثم تبعهم المستشرقون وطبل بقولهم وزمر من لم يعرف من التصوف إلا ما قرأه في نقد أولئك ودراساتهم الذين قسموا الصوفية إلى مدارس منها مدرسة الحلول ومدرسة الاتحاد وما إلى ذلك. لقد فهموا التجلي على أنه حلول كما فهموا الخمرة عند ابن الفارض. والحقيقة التي يجب أن نضعها في الحسبان أن الرمز الصوفي هو اختزال للمعاني وتعبير عن حال غير معتادة في طبيعة البشر وهي تجلي الله سبحانه وتعالى فلا تستطيع الكلمات أن تعبر عن معاني الحالة فيلجؤون إلى تجسيدها بمعاني محسوسة. يقول الرسول صلى الله عليه وسلم:
"إني أرى مالا ترون ,أطت السماء وحق لها أن تئط , ما فيها أربعأصابع إلا وملك واضع جبهتهساجدا لله تعالى، والله لو تعلمون ما أعلم لضحكتمقليلا ولبكيتم كثيرا , وما تلذذتم بالنساء علىالفراش ولخرجتم إلى الصَّعَـداتتجأرون إلى الله تعالى"
وعلى ضوء الحديث لو رأينا مجموعة من الناس يركضون في الشوارع يجأرون إلى الله تعالى فما موقفنا منهم؟ بالتأكيد سنقول هؤلاء مجانين. فإن قيل لنا هؤلاء مسلمون أتقياء يخلفون الله ، لقلنا هذا ليس بدين. لأن الإسلام دين هدوء وسكينة، وتقوى الله في القلب وليست في الخروج إلى الشوارع صائحين باكين، ولو كان ذلك من الدين لفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم ولفعله أصحابه.
هنا اختلفت المعايير فالصحابة لم يفعلوها، وفعلها بعض الصوفية فكانوا مجانين في عرفنا مع أن النبي صلى الله عليه وسلم أشار إليها من طرف غير خفي.
قضية التجلي لم يفهمها النقاد فتوهموها حلولا واتحادا، قال تعالى عن موسى عليه السلام :" قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنْ انظُرْ إلى الْجَبَلِ فَإِنْ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكّاً وَخَرَّ مُوسَى صَعِقاً" فمن الواضح أن التجلي ليس رؤية بصرية وإنما هو حالة أخرى جعل الله الجبل يعايشها فاندك. ومن المعلوم أنها لو كانت نظرا لكان ممكنا لموسى عليه السلام ولمحمد عليه الصلاة والسلام حيث إن الله بين أنه عليه الصلاة والسلام أمكن وأثبت من الجبل بقوله تعالى: (لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعا متصدعا من خشية الله) وقال تعالى:( قل من كان عدوا لجبريل فإنه نزله على قلبك بإذن الله ) فقلب النبي صلى الله عليه وسلم نزل عليه القرآن الذي لو نزل على جبل لتصدع، فأيهما أثبت وأشد وأقوى؟
فالتجلي ليس رؤية بصرية وهي الحالة التي عبر عنها الصوفية برموز فهمها غيرهم على أنها حلول أو اتحاد. أنا قرأت عن أعلام التصوف وقرأت كلامهم فلم أجد شيئا من ذلك. ربما كان في أقوال الحلاج ومحيي الدين بن عربي مجال لشكوك هؤلاء ،لكن هل هذان هما أعلام التصوف؟ وهل هذان كل الصوفية؟ وهل هما حقا صوفيان؟ ما أدرانا ؟ ولماذا نترك أقوال الرفاعي والكيلاني والشاذلي ورابعة العدوية وإبراهيم بن أدهم ونأخذ الحلاج ومحيي الدين بن عربي؟ لماذا لا نأخذ من سير الصحابة إلا أنهم تقاتلوا على الإمارة؟ لماذا لانأخذ عن أمهات المؤمنين إلا الغيرة وإفشاء سر النبي صلى الله عليه وسلم وتظاهر بعضهن عليه؟ لقد ثبت بلال على التعذيب فأصر على كلمة (أحد أحد) وانهار عمار بن ياسر فذكر آلهتهم. فأيهما على الحق؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمار رضي الله عنه: إن عادوا فعد. فلماذا لم يقل لبلال مثل ذلك ليكفوا عن تعذيبهم. المنهج لا يمكن تقييمه من خلال أفراد وإنما هناك معايير مختلفة لتقييم أي منهج تعتمد على نماذج من كل الشرائح وسلوكهم والتدقيق والتمحيص والمطابقة ثم الترجيح والتقويم. وأختتم مقالي بالتأكيد على أمرين هما النزاهة والإنصاف في التقييم لنجمع بين الصحة والمنطقية. والله أعلم ، نسأله سبحانه السداد وأن يرينا الحق حقا ويرزقنا اتباعه ، وأن يرينا الباطل باطلا ويرزقنا اجتنابه، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.